TINGKATAN MUJTAHID
الموسوعة الفقهية الكويتية ج 1 ص 34
طَبَقَاتُ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْفُقَهَاءِ :
31 - فِي هَذِهِ الْفِقْرَةِ سَنُبَيِّنُ طَبَقَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى سَبِيلِ السَّرْدِ لا عَلَى سَبِيلِ الْبَسْطِ ؛ لأَنَّ بَسْطَ هَذَا الْمَوْضُوعِ تَكَفَّلَ بِهِ عِلْمُ تَارِيخِ التَّشْرِيعِ وَكُتُبُ طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ . وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدِينَ إِلَى الطَّبَقَاتِ الآتِيَةِ :
أ - الْمُجْتَهِدُونَ الْكِبَارُ
وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ وَالْمُنْدَثِرَةِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ لَهُ مَنْهَجُهُ الْخَاصُّ فِي الاجْتِهَادِ تَأْصِيلا وَتَفْرِيعًا ، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ ، الَّتِي يَعْتَنِقُهَا الْكَثْرَةُ الْكَاثِرَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا . وَكَانَ يُعَاصِرُ هَؤُلاءِ أَئِمَّةٌ لا يَقِلُّونَ عَنْهُمْ مَنْزِلَةً ، وَإِنْ انْدَثَرَتْ مَذَاهِبُهُمْ كَالأَوْزَاعِيِّ بِالشَّامِ ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِمِصْرَ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيِّ بِالْعِرَاقِ . . . إِلَى غَيْرِ هَؤُلاءِ مِمَّنْ زَخَرَتْ بِهِمْ كُتُبُ الْخِلافِ وَالتَّفَاسِيرِ وَشُرُوحِ الأَحَادِيثِ وَالآثَارِ .
ب - الْمُجْتَهِدُونَ الْمُنْتَسِبُونَ
وَهُمْ أَصْحَابُ هَؤُلاءِ الأَئِمَّةِ وَتَلامِيذُهُمْ . وَهُمْ يَتَّفِقُونَ مَعَ إِمَامِهِمْ فِي الْقَوَاعِدِ وَالأُصُولِ . وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ مَعَهُ فِي التَّفْرِيعِ . وَآرَاؤُهُمْ تُعْتَبَرُ مِنْ الْمَذْهَبِ الَّذِي يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ رَأْيُهُ غَيْرَ مَرْوِيٍّ عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ كَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ ، وَكَالْمُزَنِيِّ لِلشَّافِعِيِّ . أَمَّا أَصْحَابُ أَحْمَدَ فَكَانُوا رُوَاةً فَقَطْ لأَحَادِيثِهِ وَآرَائِهِ الْفِقْهِيَّةِ وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ خَالَفَ إِمَامَهُ فِي أَصْلٍ أَوْ فَرْعٍ . وَمِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الأَثْرَمُ وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ .
ج - مُجْتَهِدُو الْمَذَاهِبِ
وَهُمْ لا يَخْتَلِفُونَ مَعَ أَئِمَّتِهِمْ لا فِي الأُصُولِ وَلا فِي الْفُرُوعِ ، وَلَكِنْ يُخَرِّجُونَ الْمَسَائِلَ الَّتِي لَمْ يَرِدْ عَنْ الإِمَامِ وَأَصْحَابِهِ رَأْيٌ فِيهَا ، مُلْتَزِمِينَ مَنْهَجَ الإِمَامِ فِي اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ . وَرُبَّمَا يُخَالِفُونَ إِمَامَهُمْ فِي الْمَسَائِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْعُرْفِ . وَيُعَبِّرُونَ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ اخْتِلافِ الدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ ، وَلَكِنْ لاخْتِلافِ الْعُرْفِ وَالزَّمَانِ ، بِحَيْثُ لَوْ اطَّلَعَ إِمَامُهُمْ عَلَى مَا اطَّلَعُوا عَلَيْهِ لَذَهَبَ إِلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ . وَهَؤُلاءِ هُمْ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ فِي تَحْقِيقِ الْمَذْهَبِ وَتَثْبِيتِ قَوَاعِدِهِ وَجَمْعِ شَتَاتِهِ .
د - الْمُجْتَهِدُونَ الْمُرَجِّحُونَ
وَهَؤُلاءِ مُهِمَّتُهُمْ تَرْجِيحُ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَلَى بَعْضٍ ، مُرَاعِينَ الْقَوَاعِدَ الَّتِي وَضَعَهَا الْمُتَقَدِّمُونَ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ جَعَلُوا هَاتَيْنِ الطَّبَقَتَيْنِ - ج ، د - طَبَقَةً وَاحِدَةً .
هـ - طَبَقَةُ الْمُسْتَدِلِّينَ : وَهَؤُلاءِ لا يَسْتَنْبِطُونَ وَلا يُرَجِّحُونَ قَوْلا عَلَى قَوْلٍ ، وَلَكِنْ يَسْتَدِلُّونَ لِلأَقْوَالِ ، وَيُبَيِّنُونَ مَا اعْتَمَدَتْ عَلَيْهِ ، وَيُوَازِنُونَ بَيْنَ الأَدِلَّةِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ لِلْحُكْمِ ، وَلا بَيَانٍ لِمَا هُوَ أَجْدَرُ بِالْعَمَلِ .
وَأَنْتَ إِذَا دَقَّقْتَ النَّظَرَ رَأَيْتَ أَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَةَ لا تَقِلُّ قَدْرًا عَنْ سَابِقَتَيْهَا ، إِذْ لا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُمْ بِالاسْتِدْلالِ لِلأَحْكَامِ لا يَنْتَهِي إِلَى تَرْجِيحِ رَأْيٍ عَلَى رَأْيٍ . وَمِنْ هُنَا فَالأَوْلَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الطَّبَقَاتُ الثَّلاثُ مُتَدَاخِلَةً .
32 - وَمِمَّنْ عُدُّوا فِي هَذِهِ الطَّبَقَاتِ الثَّلاثِ كَمُجْتَهِدِي مَذْهَبٍ أَوْ مِنْ أَهْلِ التَّرْجِيحِ أَوِ الْمُسْتَدِلِّينَ ، مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ ، وَالْجَصَّاصُ الرَّازِيُّ ، وَأَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ ، وَشَمْسُ الأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ ، وَشَمْسُ الأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إِلَخْ .
وَمِنْ الْمَالِكِيَّةِ : أَبُو سَعِيدٍ الْبَرَادِعِيُّ ، وَاللَّخْمِيُّ ، وَالْبَاجِيُّ ، وَابْنُ رُشْدٍ ، وَالْمَازِرِيُّ ، وَابْنُ الْحَاجِبِ ، وَالْقَرَافِيُّ .
وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ : أَبُو سَعِيدٍ الإِصْطَخْرِيُّ ، وَالْقَفَّالُ الْكَبِيرُ الشَّاشِيُّ ، وَحُجَّةُ الإِسْلامِ الْغَزَالِيُّ .
وَمِنْ الْحَنَابِلَةِ : أَبُو بَكْرٍ الْخَلالُ ، وَأَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيُّ ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْكَبِيرُ .
وَبِالرُّجُوعِ إِلَى هَؤُلاءِ الْمَذْكُورِينَ نَجِدُ أَنَّ الْمُؤَرِّخِينَ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهِمْ وَفِي طَبَقَاتِهِمْ ، وَلَكِنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ هَؤُلاءِ لَهُمْ قَدَمُ صِدْقٍ فِي تَثْبِيتِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، وَلَهُمْ الأَثَرُ الْبَعِيدُ فِي بَقَائِهَا وَتَثْبِيتِ أَرْكَانِهَا .
33 - الْمُقَلِّدُونَ : وَهَؤُلاءِ لَيْسَ لَهُمْ اجْتِهَادٌ ، وَإِنَّمَا عَمَلُهُمْ فِي قُوَّةِ النَّقْلِ . وَهُمْ طَبَقَتَانِ : طَبَقَةُ الْحُفَّاظِ ، وَطَبَقَةُ الاتِّبَاعِ الْمُجَرَّدِ .
أ - طَبَقَةُ الْحُفَّاظِ :
هُمْ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ أَكْثَرَ أَحْكَامِ الْمَذْهَبِ وَرِوَايَاتِهِ ، وَهُمْ حُجَّةٌ فِي النَّقْلِ لا فِي الاجْتِهَادِ ، فَهُمْ حُجَّةٌ فِي نَقْلِ الرِّوَايَاتِ وَبَيَانِ أَوْضَحِهَا ، وَنَقْلِ أَقْوَى الآرَاءِ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَجِّحُوا . وَيَقُولُ فِيهِمُ ابْنُ عَابِدِينَ : وَإِنَّهُمْ الْقَادِرُونَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الأَقْوَى وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ ، وَظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَالرِّوَايَةِ النَّادِرَةِ ، كَأَصْحَابِ الْمُتُونِ الْمُعْتَبَرَةِ كَصَاحِبِ الْكَنْزِ وَصَاحِبِ تَنْوِيرِ الأَبْصَارِ وَصَاحِبِ الْوِقَايَةِ وَصَاحِبِ الْمَجْمَعِ . وَشَأْنُهُمْ أَلا يَنْقُلُوا فِي كُتُبِهِمْ الأَقْوَالَ الْمَرْدُودَةَ وَالرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةَ ، وَعَلَى هَذَا لا يَكُونُ عَمَلُهُمْ التَّرْجِيحَ ، وَلَكِنْ مَعْرِفَةُ دَرَجَاتِ التَّرْجِيحِ وَتَرْتِيبُهَا عَلَى حَسَبِ مَا قَامَ بِهِ الْمُرَجِّحُونَ ، وَيَخْتَلِفُونَ حِينَئِذٍ فِي نَقْلِ التَّرْجِيحِ ، فَقَدْ يَنْقُلُ بَعْضُهُمْ تَرْجِيحَ رَأْيٍ عَلَى رَأْيٍ ، وَيَنْقُلُ الآخَرُ خِلافَ ذَلِكَ ، فَيَخْتَارُ مِنْ أَقْوَالِ الْمُرَجِّحِينَ أَقْوَاهَا تَرْجِيحًا وَأَكْثَرَهَا اعْتِمَادًا عَلَى أُصُولِ الْمَذْهَبِ ، أَوْ مَا يَكُونُ أَكْثَرَ عَدَدًا ، أَوْ مَا يَكُونُ صَاحِبُهُ أَكْثَرَ حُجِّيَّةً فِي الْمَذْهَبِ .
وَهَؤُلاءِ لَهُمْ حَقُّ الإِفْتَاءِ كَالسَّابِقِينَ ، وَلَكِنْ فِي دَائِرَةٍ ضَيِّقَةٍ عَنْ الأَوَّلِينَ . وَقَدْ قَالَ فِيهِمُ ابْنُ عَابِدِينَ : وَلا شَكَّ أَنَّ مَعْرِفَةَ رَاجِحِ الْمُخْتَلِفِ مِنْ مَرْجُوحِهِ وَمَرَاتِبِهِ قُوَّةً وَضَعْفًا هُوَ نِهَايَةُ مَآلِ الْمُشَمِّرِينَ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ . فَالْمَفْرُوضُ عَلَى الْمُفْتِي وَالْقَاضِي التَّثَبُّتُ فِي الْجَوَابِ ، وَعَدَمُ الْمُجَازَفَةِ فِيهِ ، خَوْفًا مِنْ الافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَحْلِيلِ حَرَامِهِ وَتَحْرِيمِ ضِدِّهِ (1) .
وَنَرَى أَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَةَ دِرَاسَتُهَا دِرَاسَةُ جَمْعٍ وَتَصْنِيفٍ وَتَرْتِيبٍ لِلأَقْوَالِ فِي الْمَذْهَبِ مِنْ حَيْثُ صِحَّةُ نَقْلِهَا ، لا مِنْ حَيْثُ قُوَّةُ دَلِيلِهَا .
ب - الْمُتَّبِعُونَ :
نَقْصِدُ بِهَؤُلاءِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ غَيْرَهُمْ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَذْهَبِ ، فَيَتَّبِعُونَ مَنْ سَبَقَهُمْ فِي الاجْتِهَادِ وَفِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الآرَاءِ وَفِي الاسْتِدْلالِ ، وَفِي التَّرْجِيحِ فِي النَّقْلِ وَفِي سَلامَتِهِ . فَهَؤُلاءِ لَيْسَ لَهُمْ إِلا فَهْمُ الْكُتُبِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّرْجِيحِ ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ التَّرْجِيحَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ ، وَلَمْ يُؤْتَوْا عِلْمًا كَعِلْمِ الْمُرَجِّحِينَ فِي أَيِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ التَّرْجِيحِ وَتَمْيِيزِ دَرَجَاتِ التَّرْجِيحِ . وَهَؤُلاءِ قَالَ فِيهِمُ ابْنُ عَابِدِينَ : لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْغَثِّ وَالسَّمِينِ ، وَلا يُمَيِّزُونَ الشِّمَالَ مِنْ الْيَمِينِ ، بَلْ يَجْمَعُونَ مَا يَجِدُونَ كَحَاطِبِ لَيْلٍ ، فَالْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ لِمَنْ قَلَّدَهُمْ .
وَإِنَّ هَذَا الصِّنْفَ مِنْ الْمُتَّبِعِينَ قَدْ كَثُرَ فِي الْعُصُورِ الأَخِيرَةِ ، فَهُمْ يَعْكُفُونَ عَلَى عِبَارَاتِ الْكُتُبِ ، لا يَتَّجِهُونَ إِلا إِلَى الالْتِقَاطِ مِنْهَا ، مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِتَعَرُّفِ دَلِيلِ مَا يَلْتَقِطُونَ ، وَيَبْنُونَ عَلَيْهِ ، بَلْ يَكْتُمُونَ بِأَنْ يَقُولُوا : هُنَاكَ قَوْلٌ بِهَذَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَلِيلٌ قَوِيٌّ (1) .
وَلَقَدْ كَانَ لِهَذَا الْفَرِيقِ أَثَرَانِ مُخْتَلِفَانِ : أَحَدُهُمَا خَيْرٌ ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ لا يَصِحُّ إِلا بِالرَّاجِحِ مِنْ الْمَذْهَبِ ، فَإِنَّ هَؤُلاءِ عَمَلُهُمْ الاتِّبَاعُ لِهَذَا الرَّاجِحِ ، وَفِي ذَلِكَ ضَبْطٌ لِلْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ فُرُطًا . وَتَقْيِيدُ الْقَضَاءِ فِي الأَزْمَانِ الَّتِي تَنْحَرِفُ فِيهَا الأَفْكَارُ وَاجِبٌ ، بَلْ إِنَّ الاتِّبَاعَ لا يَكُونُ حَسَنًا إِلا فِي الأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ .
الأَثَرُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا فِيهِ تَقْدِيسٌ لأَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ السَّابِقِينَ ، وَاعْتِبَارُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً سَائِغَةً مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى قُوَّةِ الدَّلِيلِ ، وَمِقْدَارِ صِلَةِ الْقَوْلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَمِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى صَلاحِيَتِهِ لِلتَّطْبِيقِ ، وَقَدْ اخْتَلَطَ الْحَابِلُ بِالنَّابِلِ . وَقَدْ كَانَ لِهَذَا أَثَرٌ فِي الْبِيئَاتِ الَّتِي تُحَاوِلُ أَنْ تَجِدَ مُسَوِّغًا لِمَا تَفْعَلُ ، فَيُسَارِعُ الْمُرَاءُونَ الْمُتَمَلِّقُونَ إِلَى تَبْرِيرِ أَفْعَالِ بَعْضِ ذَوِي النُّفُوذِ ، بِذِكْرِ أَقْوَالٍ شَاذَّةٍ ، فَيَتَعَلَّقُ هَؤُلاءِ بِأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَجَازُوا مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ وَمَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ أَفْعَالٍ ، أَيًّا كَانَ قَائِلُهُ وَأَيًّا كَانَتْ حُجَّتُهُ ، بَلْ أَيًّا كَانَتْ سَلامَةُ نَقْلِهِ أَوْ قُوَّتُهُ فِي الْمَذْهَبِ الَّذِي دَوَّنَ فِي كُتُبِهِ ، ثُمَّ يَنْثُرُ هَؤُلاءِ الْمُتَمَلِّقُونَ ذَلِكَ نَثْرًا فِي الْمَجَالِسِ ، مُبَاهَاةً بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ . فَالْوَيْلُ لِهَؤُلاءِ ، وَالْوَيْلُ لِمَنْ قَلَّدَهُمْ ، وَالْوَيْلُ لِمَنْ يَأْخُذُ كَلامَهُمْ حُجَّةً فِي الدِّينِ ، وَالْوَيْلُ لِمَنْ يُشَجِّعُهُمْ (2) .
34 - فِي عُصُورِ الاجْتِهَادِ الْمُخْتَلِفَةِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُطْلَقًا أَمْ مُقَيَّدًا ، بَلْ وَفِي عُصُورِ التَّقْلِيدِ ، لَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفِقْهِ اعْتَمَدَ فِي اسْتِنْبَاطِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى غَيْرِ الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَلَمْ يَتَّجِهْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى الأَخْذِ مِنْ الْقَانُونِ الرُّومَانِيِّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْقَوَانِينِ الَّتِي كَانَتْ سَائِدَةً فِي الْبِلادِ الْمَفْتُوحَةِ .
وَعَلَى الَّذِينَ يُشَكِّكُونَ فِي أَنَّ فُقَهَاءَنَا قَدْ اعْتَمَدُوا عَلَى الْقَانُونِ الرُّومَانِيِّ فِي اسْتِنْبَاطِهِمْ أَنْ يَدُلُّونَا عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ اعْتَمَدُوا فِيهِ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ أَوْ غَيْرِهِ ، فَإِنْ وُجِدَ حُكْمٌ مُطَابِقٌ لِمَا فِي الْقَانُونِ الرُّومَانِيِّ فَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ ، بَلْ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْفِطَرُ السَّلِيمَةُ وَمِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَمْ تَخْتَلِفْ بِاخْتِلافِ الْعُصُورِ وَالأَزْمَانِ . وَعِنْدَ النَّظَرِ فِي مَصْدَرِ هَذِهِ الأَحْكَامِ - إِنْ وُجِدَتْ - سَنَجِدُ أَنَّهَا مُعْتَمِدَةٌ عَلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ
نهاية المطلب مقدمة ص ١٦٩
ﺇﺫﺍ ﺧﺮﺝ ﺍﻟﻤﺠﺘﻬﺪ ﺍﻟﻤﻨﺘﺴﺐ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺬﻫﺐ ﻋﻠﻰ ﻏﻴﺮ ﻗﻮﺍﻋﺪ ﺇﻣﺎﻣﻪ, ﻭﻏﻴﺮ ﻣﺴﺘﻨﺒﻂ ﻣﻦ ﻧﺼﻮﺻﻪ, ﻓﺘﺨﺮﻳﺠﺎﺗﻪ ﻟﺎ ﺗﻌﺪ ﻭﺟﻮﻫﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺬﻫﺐ, ﺑﻞ ﺗﻌﺪ ﻣﺬﻫﺒﺎ ﺧﺎﺻﺎ ﻟﻪ, ﻛﺒﻌﺾ ﺗﺨﺮﻳﺠﺎﺕ ﺍﻟﻤﺰﻧﻲ, ﻭﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻧﺼﺮ ﺍﻟﻤﺮﻭﺯﻱ, ﻭﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﺟﺮﻳﺮ ﻭﻏﻴﺮﻫﻢ, ﻭﻗﺪ ﺃﺷﺮﻧﺎ ﺇﻟﻰ ﺷﻲﺀ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﻓﻴﻤﺎ ﺳﻠﻒ.
ﺇﻣﺎ ﺇﺫﺍ ﺧﺮﺝ ﻋﻠﻰ ﺃﺻﻮﻝ ﺇﻣﺎﻣﻪ ﻭﻗﻮﺍﻋﺪﻩ, ﺃﻭ ﺧﺮﺝ ﻣﻦ ﻧﺺ ﻣﻌﻴﻦ ﻟﺈﻣﺎﻣﻪ, ﺃﻭ ﺍﻛﺘﻔﻰ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺑﺪﻟﻴﻞ ﺇﻣﺎﻣﻪ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺃﻥ ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﻣﻌﺎﺭﺽ ﻛﻔﻌﻞ ﺍﻟﻤﺠﺘﻬﺪ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ, ﻓﻬﺬﻩ ﺍﻟﻮﺟﻮﻩ ﺗﻌﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺬﻫﺐ, ﻗﺎﻝ ﺇﻣﺎﻡ ﺍﻟﺤﺮﻣﻴﻦ ﻓﻲ (ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﺐ) ﻓﻲ ﺑﺎﺏ ﻣﺎ ﻳﻨﻘﺾ ﺍﻟﻮﺿﻮﺀ: " ﺇﺫﺍ ﺍﻧﻔﺮﺩ ﺍﻟﻤﺰﻧﻲ ﺑﺮﺃﻱ, ﻓﻬﻮ ﺻﺎﺣﺐ ﻣﺬﻫﺐ, ﻭﺇﺫﺍ ﺧﺮﺝ ﻟﻠﺸﺎﻓﻌﻲ قولا, ﻓﺘﺨﺮﻳﺠﻪ ﺃﻭﻟﻰ ﻣﻦ ﺗﺨﺮﻳﺞ ﻏﻴﺮﻩ, ﻭﻫﻮ ﻣﻠﺘﺤﻖ ﺑﺎﻟﻤﺬﻫﺐ, ﻟﺎ ﻣﺤﺎﻟﺔ ".
اداب المفتى والمستفتى
ﻗﻠﺖ: ﺩﻋﻮﻯ اﻧﺘﻔﺎء اﻟﺘﻘﻠﻴﺪ ﻋﻨﻬﻢ ﻣﻄﻠﻘﺎ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻭﺟﻪ ﻻ ﻳﺴﺘﻘﻴﻢ ﺇﻻ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻗﺪ ﺃﺣﺎﻃﻮا ﺑﻌﻠﻮﻡ اﻻﺟﺘﻬﺎﺩ اﻟﻤﻄﻠﻖ، ﻭﻓﺎﺯﻭا ﺑﺮﺗﺒﺔ اﻟﻤﺠﺘﻬﺪﻳﻦ اﻟﻤﺴﺘﻘﻠﻴﻦ، ﻭﺫﻟﻚ ﻻ ﻳﻼﺋﻢ اﻟﻤﻌﻠﻮﻡ ﻣﻦ ﺃﺣﻮاﻟﻬﻢ, ﺃﻭ ﺃﺣﻮاﻝ ﺃﻛﺜﺮﻫﻢ، ﻭﻗﺪ ﺫﻛﺮ ﺑﻌﺾ اﻷﺻﻮﻟﻴﻴﻦ ﻣﻨﺎ : ﺃﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻮﺟﺪ ﺑﻌﺪ ﻋﺼﺮ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ ﻣﺠﺘﻬﺪ ﻣﺴﺘﻘﻞ.
ﻭﺣﻜﻰ اﺧﺘﻼﻓﺎ ﺑﻴﻦ ﺃﺻﺤﺎﺑﻨﺎ، ﻭﺃﺻﺤﺎﺏ ﺃﺑﻲ ﺣﻨﻴﻔﺔ ﻓﻲ ﺃﺑﻲ ﻳﻮﺳﻒ، ﻭﻣﺤﻤﺪ، ﻭاﻟﻤﺰﻧﻲ، ﻭاﺑﻦ ﺳﺮﻳﺞ ﺧﺎﺻﺎ، ﻫﻞ ﻛﺎﻧﻮا ﻣﻦ اﻟﻤﺠﺘﻬﺪﻳﻦ اﻟﻤﺴﺘﻘﻠﻴﻦ، ﺃﻭ ﻣﻦ اﻟﻤﺠﺘﻬﺪﻳﻦ ﻓﻲ اﻟﻤﺬاﻫﺐ؟ ﻭﻻ ﻧﺴﺘﻨﻜﺮ ﺩﻋﻮﻯ ﺫﻟﻚ ﻓﻴﻬﻢ ﻓﻲ ﻓﻦ ﻣﻦ اﻟﻔﻘﻪ، ﺩﻭﻥ ﻓﻦ ﺑﻨﺎء ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻗﺪﻣﻨﺎﻩ ﻣﻦ ﺟﻮاﺯ ﺗﺠﺰﻱء ﻣﻨﺼﺐ اﻟﻤﺠﺘﻬﺪ اﻟﻤﺴﺘﻘﻞ، ﻭﻳﺒﻌﺪ ﺟﺮﻳﺎﻥ ﺫﻟﻚ اﻟﺨﻼﻑ ﻓﻲ ﺣﻖ ﻫﺆﻻء اﻟﻤﺘﺒﺤﺮﻳﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﻋﻢ ﻧﻈﺮﻫﻢ اﻷﺑﻮاﺏ ﻛﻠﻬﺎ، ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﻳﺨﻔﻰ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺪﻫﻢ ﺇﺫا ﻛﻤﻞ ﻓﻲ ﺑﺎﺏ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﻣﻨﻪ ﺑﻐﻴﺮﻩ ﻣﻦ اﻷﺑﻮاﺏ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﻜﻤﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻌﻤﻮﻡ ﻧﻈﺮﻩ ﻭﺟﻮﻻﻧﻪ ﻓﻲ اﻷﺑﻮاﺏ ﻛﻠﻬﺎ.
ﺇﺫا ﻋﺮﻓﺖ ﻫﺬا ﻓﻔﺘﻮﻯ اﻟﻤﻨﺘﺴﺒﻴﻦ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ اﻟﺤﺎﻟﺔ، ﻓﻲ ﺣﻜﻢ ﻓﺘﻮﻯ اﻟﻤﺠﺘﻬﺪ اﻟﻤﺴﺘﻘﻞ اﻟﻤﻄﻠﻖ، ﻳﻌﻤﻞ ﺑﻬﺎ ﻭﻳﻌﺘﺪ ﺑﻬﺎ ﻓﻲ اﻹﺟﻤﺎﻉ ﻭاﻟﺨﻼﻑ، ﻭاﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻢ.
طَبَقَاتُ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْفُقَهَاءِ :
31 - فِي هَذِهِ الْفِقْرَةِ سَنُبَيِّنُ طَبَقَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى سَبِيلِ السَّرْدِ لا عَلَى سَبِيلِ الْبَسْطِ ؛ لأَنَّ بَسْطَ هَذَا الْمَوْضُوعِ تَكَفَّلَ بِهِ عِلْمُ تَارِيخِ التَّشْرِيعِ وَكُتُبُ طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ . وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدِينَ إِلَى الطَّبَقَاتِ الآتِيَةِ :
أ - الْمُجْتَهِدُونَ الْكِبَارُ
وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ وَالْمُنْدَثِرَةِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ لَهُ مَنْهَجُهُ الْخَاصُّ فِي الاجْتِهَادِ تَأْصِيلا وَتَفْرِيعًا ، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ ، الَّتِي يَعْتَنِقُهَا الْكَثْرَةُ الْكَاثِرَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا . وَكَانَ يُعَاصِرُ هَؤُلاءِ أَئِمَّةٌ لا يَقِلُّونَ عَنْهُمْ مَنْزِلَةً ، وَإِنْ انْدَثَرَتْ مَذَاهِبُهُمْ كَالأَوْزَاعِيِّ بِالشَّامِ ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِمِصْرَ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيِّ بِالْعِرَاقِ . . . إِلَى غَيْرِ هَؤُلاءِ مِمَّنْ زَخَرَتْ بِهِمْ كُتُبُ الْخِلافِ وَالتَّفَاسِيرِ وَشُرُوحِ الأَحَادِيثِ وَالآثَارِ .
ب - الْمُجْتَهِدُونَ الْمُنْتَسِبُونَ
وَهُمْ أَصْحَابُ هَؤُلاءِ الأَئِمَّةِ وَتَلامِيذُهُمْ . وَهُمْ يَتَّفِقُونَ مَعَ إِمَامِهِمْ فِي الْقَوَاعِدِ وَالأُصُولِ . وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ مَعَهُ فِي التَّفْرِيعِ . وَآرَاؤُهُمْ تُعْتَبَرُ مِنْ الْمَذْهَبِ الَّذِي يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ رَأْيُهُ غَيْرَ مَرْوِيٍّ عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ كَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ ، وَكَالْمُزَنِيِّ لِلشَّافِعِيِّ . أَمَّا أَصْحَابُ أَحْمَدَ فَكَانُوا رُوَاةً فَقَطْ لأَحَادِيثِهِ وَآرَائِهِ الْفِقْهِيَّةِ وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ خَالَفَ إِمَامَهُ فِي أَصْلٍ أَوْ فَرْعٍ . وَمِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الأَثْرَمُ وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ .
ج - مُجْتَهِدُو الْمَذَاهِبِ
وَهُمْ لا يَخْتَلِفُونَ مَعَ أَئِمَّتِهِمْ لا فِي الأُصُولِ وَلا فِي الْفُرُوعِ ، وَلَكِنْ يُخَرِّجُونَ الْمَسَائِلَ الَّتِي لَمْ يَرِدْ عَنْ الإِمَامِ وَأَصْحَابِهِ رَأْيٌ فِيهَا ، مُلْتَزِمِينَ مَنْهَجَ الإِمَامِ فِي اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ . وَرُبَّمَا يُخَالِفُونَ إِمَامَهُمْ فِي الْمَسَائِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْعُرْفِ . وَيُعَبِّرُونَ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ اخْتِلافِ الدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ ، وَلَكِنْ لاخْتِلافِ الْعُرْفِ وَالزَّمَانِ ، بِحَيْثُ لَوْ اطَّلَعَ إِمَامُهُمْ عَلَى مَا اطَّلَعُوا عَلَيْهِ لَذَهَبَ إِلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ . وَهَؤُلاءِ هُمْ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ فِي تَحْقِيقِ الْمَذْهَبِ وَتَثْبِيتِ قَوَاعِدِهِ وَجَمْعِ شَتَاتِهِ .
د - الْمُجْتَهِدُونَ الْمُرَجِّحُونَ
وَهَؤُلاءِ مُهِمَّتُهُمْ تَرْجِيحُ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَلَى بَعْضٍ ، مُرَاعِينَ الْقَوَاعِدَ الَّتِي وَضَعَهَا الْمُتَقَدِّمُونَ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ جَعَلُوا هَاتَيْنِ الطَّبَقَتَيْنِ - ج ، د - طَبَقَةً وَاحِدَةً .
هـ - طَبَقَةُ الْمُسْتَدِلِّينَ : وَهَؤُلاءِ لا يَسْتَنْبِطُونَ وَلا يُرَجِّحُونَ قَوْلا عَلَى قَوْلٍ ، وَلَكِنْ يَسْتَدِلُّونَ لِلأَقْوَالِ ، وَيُبَيِّنُونَ مَا اعْتَمَدَتْ عَلَيْهِ ، وَيُوَازِنُونَ بَيْنَ الأَدِلَّةِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ لِلْحُكْمِ ، وَلا بَيَانٍ لِمَا هُوَ أَجْدَرُ بِالْعَمَلِ .
وَأَنْتَ إِذَا دَقَّقْتَ النَّظَرَ رَأَيْتَ أَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَةَ لا تَقِلُّ قَدْرًا عَنْ سَابِقَتَيْهَا ، إِذْ لا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُمْ بِالاسْتِدْلالِ لِلأَحْكَامِ لا يَنْتَهِي إِلَى تَرْجِيحِ رَأْيٍ عَلَى رَأْيٍ . وَمِنْ هُنَا فَالأَوْلَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الطَّبَقَاتُ الثَّلاثُ مُتَدَاخِلَةً .
32 - وَمِمَّنْ عُدُّوا فِي هَذِهِ الطَّبَقَاتِ الثَّلاثِ كَمُجْتَهِدِي مَذْهَبٍ أَوْ مِنْ أَهْلِ التَّرْجِيحِ أَوِ الْمُسْتَدِلِّينَ ، مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ ، وَالْجَصَّاصُ الرَّازِيُّ ، وَأَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ ، وَشَمْسُ الأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ ، وَشَمْسُ الأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إِلَخْ .
وَمِنْ الْمَالِكِيَّةِ : أَبُو سَعِيدٍ الْبَرَادِعِيُّ ، وَاللَّخْمِيُّ ، وَالْبَاجِيُّ ، وَابْنُ رُشْدٍ ، وَالْمَازِرِيُّ ، وَابْنُ الْحَاجِبِ ، وَالْقَرَافِيُّ .
وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ : أَبُو سَعِيدٍ الإِصْطَخْرِيُّ ، وَالْقَفَّالُ الْكَبِيرُ الشَّاشِيُّ ، وَحُجَّةُ الإِسْلامِ الْغَزَالِيُّ .
وَمِنْ الْحَنَابِلَةِ : أَبُو بَكْرٍ الْخَلالُ ، وَأَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيُّ ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْكَبِيرُ .
وَبِالرُّجُوعِ إِلَى هَؤُلاءِ الْمَذْكُورِينَ نَجِدُ أَنَّ الْمُؤَرِّخِينَ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهِمْ وَفِي طَبَقَاتِهِمْ ، وَلَكِنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ هَؤُلاءِ لَهُمْ قَدَمُ صِدْقٍ فِي تَثْبِيتِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، وَلَهُمْ الأَثَرُ الْبَعِيدُ فِي بَقَائِهَا وَتَثْبِيتِ أَرْكَانِهَا .
33 - الْمُقَلِّدُونَ : وَهَؤُلاءِ لَيْسَ لَهُمْ اجْتِهَادٌ ، وَإِنَّمَا عَمَلُهُمْ فِي قُوَّةِ النَّقْلِ . وَهُمْ طَبَقَتَانِ : طَبَقَةُ الْحُفَّاظِ ، وَطَبَقَةُ الاتِّبَاعِ الْمُجَرَّدِ .
أ - طَبَقَةُ الْحُفَّاظِ :
هُمْ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ أَكْثَرَ أَحْكَامِ الْمَذْهَبِ وَرِوَايَاتِهِ ، وَهُمْ حُجَّةٌ فِي النَّقْلِ لا فِي الاجْتِهَادِ ، فَهُمْ حُجَّةٌ فِي نَقْلِ الرِّوَايَاتِ وَبَيَانِ أَوْضَحِهَا ، وَنَقْلِ أَقْوَى الآرَاءِ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَجِّحُوا . وَيَقُولُ فِيهِمُ ابْنُ عَابِدِينَ : وَإِنَّهُمْ الْقَادِرُونَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الأَقْوَى وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ ، وَظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَالرِّوَايَةِ النَّادِرَةِ ، كَأَصْحَابِ الْمُتُونِ الْمُعْتَبَرَةِ كَصَاحِبِ الْكَنْزِ وَصَاحِبِ تَنْوِيرِ الأَبْصَارِ وَصَاحِبِ الْوِقَايَةِ وَصَاحِبِ الْمَجْمَعِ . وَشَأْنُهُمْ أَلا يَنْقُلُوا فِي كُتُبِهِمْ الأَقْوَالَ الْمَرْدُودَةَ وَالرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةَ ، وَعَلَى هَذَا لا يَكُونُ عَمَلُهُمْ التَّرْجِيحَ ، وَلَكِنْ مَعْرِفَةُ دَرَجَاتِ التَّرْجِيحِ وَتَرْتِيبُهَا عَلَى حَسَبِ مَا قَامَ بِهِ الْمُرَجِّحُونَ ، وَيَخْتَلِفُونَ حِينَئِذٍ فِي نَقْلِ التَّرْجِيحِ ، فَقَدْ يَنْقُلُ بَعْضُهُمْ تَرْجِيحَ رَأْيٍ عَلَى رَأْيٍ ، وَيَنْقُلُ الآخَرُ خِلافَ ذَلِكَ ، فَيَخْتَارُ مِنْ أَقْوَالِ الْمُرَجِّحِينَ أَقْوَاهَا تَرْجِيحًا وَأَكْثَرَهَا اعْتِمَادًا عَلَى أُصُولِ الْمَذْهَبِ ، أَوْ مَا يَكُونُ أَكْثَرَ عَدَدًا ، أَوْ مَا يَكُونُ صَاحِبُهُ أَكْثَرَ حُجِّيَّةً فِي الْمَذْهَبِ .
وَهَؤُلاءِ لَهُمْ حَقُّ الإِفْتَاءِ كَالسَّابِقِينَ ، وَلَكِنْ فِي دَائِرَةٍ ضَيِّقَةٍ عَنْ الأَوَّلِينَ . وَقَدْ قَالَ فِيهِمُ ابْنُ عَابِدِينَ : وَلا شَكَّ أَنَّ مَعْرِفَةَ رَاجِحِ الْمُخْتَلِفِ مِنْ مَرْجُوحِهِ وَمَرَاتِبِهِ قُوَّةً وَضَعْفًا هُوَ نِهَايَةُ مَآلِ الْمُشَمِّرِينَ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ . فَالْمَفْرُوضُ عَلَى الْمُفْتِي وَالْقَاضِي التَّثَبُّتُ فِي الْجَوَابِ ، وَعَدَمُ الْمُجَازَفَةِ فِيهِ ، خَوْفًا مِنْ الافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَحْلِيلِ حَرَامِهِ وَتَحْرِيمِ ضِدِّهِ (1) .
وَنَرَى أَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَةَ دِرَاسَتُهَا دِرَاسَةُ جَمْعٍ وَتَصْنِيفٍ وَتَرْتِيبٍ لِلأَقْوَالِ فِي الْمَذْهَبِ مِنْ حَيْثُ صِحَّةُ نَقْلِهَا ، لا مِنْ حَيْثُ قُوَّةُ دَلِيلِهَا .
ب - الْمُتَّبِعُونَ :
نَقْصِدُ بِهَؤُلاءِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ غَيْرَهُمْ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَذْهَبِ ، فَيَتَّبِعُونَ مَنْ سَبَقَهُمْ فِي الاجْتِهَادِ وَفِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الآرَاءِ وَفِي الاسْتِدْلالِ ، وَفِي التَّرْجِيحِ فِي النَّقْلِ وَفِي سَلامَتِهِ . فَهَؤُلاءِ لَيْسَ لَهُمْ إِلا فَهْمُ الْكُتُبِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّرْجِيحِ ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ التَّرْجِيحَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ ، وَلَمْ يُؤْتَوْا عِلْمًا كَعِلْمِ الْمُرَجِّحِينَ فِي أَيِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ التَّرْجِيحِ وَتَمْيِيزِ دَرَجَاتِ التَّرْجِيحِ . وَهَؤُلاءِ قَالَ فِيهِمُ ابْنُ عَابِدِينَ : لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْغَثِّ وَالسَّمِينِ ، وَلا يُمَيِّزُونَ الشِّمَالَ مِنْ الْيَمِينِ ، بَلْ يَجْمَعُونَ مَا يَجِدُونَ كَحَاطِبِ لَيْلٍ ، فَالْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ لِمَنْ قَلَّدَهُمْ .
وَإِنَّ هَذَا الصِّنْفَ مِنْ الْمُتَّبِعِينَ قَدْ كَثُرَ فِي الْعُصُورِ الأَخِيرَةِ ، فَهُمْ يَعْكُفُونَ عَلَى عِبَارَاتِ الْكُتُبِ ، لا يَتَّجِهُونَ إِلا إِلَى الالْتِقَاطِ مِنْهَا ، مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِتَعَرُّفِ دَلِيلِ مَا يَلْتَقِطُونَ ، وَيَبْنُونَ عَلَيْهِ ، بَلْ يَكْتُمُونَ بِأَنْ يَقُولُوا : هُنَاكَ قَوْلٌ بِهَذَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَلِيلٌ قَوِيٌّ (1) .
وَلَقَدْ كَانَ لِهَذَا الْفَرِيقِ أَثَرَانِ مُخْتَلِفَانِ : أَحَدُهُمَا خَيْرٌ ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ لا يَصِحُّ إِلا بِالرَّاجِحِ مِنْ الْمَذْهَبِ ، فَإِنَّ هَؤُلاءِ عَمَلُهُمْ الاتِّبَاعُ لِهَذَا الرَّاجِحِ ، وَفِي ذَلِكَ ضَبْطٌ لِلْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ فُرُطًا . وَتَقْيِيدُ الْقَضَاءِ فِي الأَزْمَانِ الَّتِي تَنْحَرِفُ فِيهَا الأَفْكَارُ وَاجِبٌ ، بَلْ إِنَّ الاتِّبَاعَ لا يَكُونُ حَسَنًا إِلا فِي الأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ .
الأَثَرُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا فِيهِ تَقْدِيسٌ لأَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ السَّابِقِينَ ، وَاعْتِبَارُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً سَائِغَةً مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى قُوَّةِ الدَّلِيلِ ، وَمِقْدَارِ صِلَةِ الْقَوْلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَمِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى صَلاحِيَتِهِ لِلتَّطْبِيقِ ، وَقَدْ اخْتَلَطَ الْحَابِلُ بِالنَّابِلِ . وَقَدْ كَانَ لِهَذَا أَثَرٌ فِي الْبِيئَاتِ الَّتِي تُحَاوِلُ أَنْ تَجِدَ مُسَوِّغًا لِمَا تَفْعَلُ ، فَيُسَارِعُ الْمُرَاءُونَ الْمُتَمَلِّقُونَ إِلَى تَبْرِيرِ أَفْعَالِ بَعْضِ ذَوِي النُّفُوذِ ، بِذِكْرِ أَقْوَالٍ شَاذَّةٍ ، فَيَتَعَلَّقُ هَؤُلاءِ بِأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَجَازُوا مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ وَمَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ أَفْعَالٍ ، أَيًّا كَانَ قَائِلُهُ وَأَيًّا كَانَتْ حُجَّتُهُ ، بَلْ أَيًّا كَانَتْ سَلامَةُ نَقْلِهِ أَوْ قُوَّتُهُ فِي الْمَذْهَبِ الَّذِي دَوَّنَ فِي كُتُبِهِ ، ثُمَّ يَنْثُرُ هَؤُلاءِ الْمُتَمَلِّقُونَ ذَلِكَ نَثْرًا فِي الْمَجَالِسِ ، مُبَاهَاةً بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ . فَالْوَيْلُ لِهَؤُلاءِ ، وَالْوَيْلُ لِمَنْ قَلَّدَهُمْ ، وَالْوَيْلُ لِمَنْ يَأْخُذُ كَلامَهُمْ حُجَّةً فِي الدِّينِ ، وَالْوَيْلُ لِمَنْ يُشَجِّعُهُمْ (2) .
34 - فِي عُصُورِ الاجْتِهَادِ الْمُخْتَلِفَةِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُطْلَقًا أَمْ مُقَيَّدًا ، بَلْ وَفِي عُصُورِ التَّقْلِيدِ ، لَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفِقْهِ اعْتَمَدَ فِي اسْتِنْبَاطِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى غَيْرِ الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَلَمْ يَتَّجِهْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى الأَخْذِ مِنْ الْقَانُونِ الرُّومَانِيِّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْقَوَانِينِ الَّتِي كَانَتْ سَائِدَةً فِي الْبِلادِ الْمَفْتُوحَةِ .
وَعَلَى الَّذِينَ يُشَكِّكُونَ فِي أَنَّ فُقَهَاءَنَا قَدْ اعْتَمَدُوا عَلَى الْقَانُونِ الرُّومَانِيِّ فِي اسْتِنْبَاطِهِمْ أَنْ يَدُلُّونَا عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ اعْتَمَدُوا فِيهِ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ أَوْ غَيْرِهِ ، فَإِنْ وُجِدَ حُكْمٌ مُطَابِقٌ لِمَا فِي الْقَانُونِ الرُّومَانِيِّ فَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ ، بَلْ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْفِطَرُ السَّلِيمَةُ وَمِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَمْ تَخْتَلِفْ بِاخْتِلافِ الْعُصُورِ وَالأَزْمَانِ . وَعِنْدَ النَّظَرِ فِي مَصْدَرِ هَذِهِ الأَحْكَامِ - إِنْ وُجِدَتْ - سَنَجِدُ أَنَّهَا مُعْتَمِدَةٌ عَلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ
نهاية المطلب مقدمة ص ١٦٩
ﺇﺫﺍ ﺧﺮﺝ ﺍﻟﻤﺠﺘﻬﺪ ﺍﻟﻤﻨﺘﺴﺐ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺬﻫﺐ ﻋﻠﻰ ﻏﻴﺮ ﻗﻮﺍﻋﺪ ﺇﻣﺎﻣﻪ, ﻭﻏﻴﺮ ﻣﺴﺘﻨﺒﻂ ﻣﻦ ﻧﺼﻮﺻﻪ, ﻓﺘﺨﺮﻳﺠﺎﺗﻪ ﻟﺎ ﺗﻌﺪ ﻭﺟﻮﻫﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺬﻫﺐ, ﺑﻞ ﺗﻌﺪ ﻣﺬﻫﺒﺎ ﺧﺎﺻﺎ ﻟﻪ, ﻛﺒﻌﺾ ﺗﺨﺮﻳﺠﺎﺕ ﺍﻟﻤﺰﻧﻲ, ﻭﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻧﺼﺮ ﺍﻟﻤﺮﻭﺯﻱ, ﻭﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﺟﺮﻳﺮ ﻭﻏﻴﺮﻫﻢ, ﻭﻗﺪ ﺃﺷﺮﻧﺎ ﺇﻟﻰ ﺷﻲﺀ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﻓﻴﻤﺎ ﺳﻠﻒ.
ﺇﻣﺎ ﺇﺫﺍ ﺧﺮﺝ ﻋﻠﻰ ﺃﺻﻮﻝ ﺇﻣﺎﻣﻪ ﻭﻗﻮﺍﻋﺪﻩ, ﺃﻭ ﺧﺮﺝ ﻣﻦ ﻧﺺ ﻣﻌﻴﻦ ﻟﺈﻣﺎﻣﻪ, ﺃﻭ ﺍﻛﺘﻔﻰ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺑﺪﻟﻴﻞ ﺇﻣﺎﻣﻪ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺃﻥ ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﻣﻌﺎﺭﺽ ﻛﻔﻌﻞ ﺍﻟﻤﺠﺘﻬﺪ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ, ﻓﻬﺬﻩ ﺍﻟﻮﺟﻮﻩ ﺗﻌﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺬﻫﺐ, ﻗﺎﻝ ﺇﻣﺎﻡ ﺍﻟﺤﺮﻣﻴﻦ ﻓﻲ (ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﺐ) ﻓﻲ ﺑﺎﺏ ﻣﺎ ﻳﻨﻘﺾ ﺍﻟﻮﺿﻮﺀ: " ﺇﺫﺍ ﺍﻧﻔﺮﺩ ﺍﻟﻤﺰﻧﻲ ﺑﺮﺃﻱ, ﻓﻬﻮ ﺻﺎﺣﺐ ﻣﺬﻫﺐ, ﻭﺇﺫﺍ ﺧﺮﺝ ﻟﻠﺸﺎﻓﻌﻲ قولا, ﻓﺘﺨﺮﻳﺠﻪ ﺃﻭﻟﻰ ﻣﻦ ﺗﺨﺮﻳﺞ ﻏﻴﺮﻩ, ﻭﻫﻮ ﻣﻠﺘﺤﻖ ﺑﺎﻟﻤﺬﻫﺐ, ﻟﺎ ﻣﺤﺎﻟﺔ ".
اداب المفتى والمستفتى
ﻗﻠﺖ: ﺩﻋﻮﻯ اﻧﺘﻔﺎء اﻟﺘﻘﻠﻴﺪ ﻋﻨﻬﻢ ﻣﻄﻠﻘﺎ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻭﺟﻪ ﻻ ﻳﺴﺘﻘﻴﻢ ﺇﻻ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻗﺪ ﺃﺣﺎﻃﻮا ﺑﻌﻠﻮﻡ اﻻﺟﺘﻬﺎﺩ اﻟﻤﻄﻠﻖ، ﻭﻓﺎﺯﻭا ﺑﺮﺗﺒﺔ اﻟﻤﺠﺘﻬﺪﻳﻦ اﻟﻤﺴﺘﻘﻠﻴﻦ، ﻭﺫﻟﻚ ﻻ ﻳﻼﺋﻢ اﻟﻤﻌﻠﻮﻡ ﻣﻦ ﺃﺣﻮاﻟﻬﻢ, ﺃﻭ ﺃﺣﻮاﻝ ﺃﻛﺜﺮﻫﻢ، ﻭﻗﺪ ﺫﻛﺮ ﺑﻌﺾ اﻷﺻﻮﻟﻴﻴﻦ ﻣﻨﺎ : ﺃﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻮﺟﺪ ﺑﻌﺪ ﻋﺼﺮ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ ﻣﺠﺘﻬﺪ ﻣﺴﺘﻘﻞ.
ﻭﺣﻜﻰ اﺧﺘﻼﻓﺎ ﺑﻴﻦ ﺃﺻﺤﺎﺑﻨﺎ، ﻭﺃﺻﺤﺎﺏ ﺃﺑﻲ ﺣﻨﻴﻔﺔ ﻓﻲ ﺃﺑﻲ ﻳﻮﺳﻒ، ﻭﻣﺤﻤﺪ، ﻭاﻟﻤﺰﻧﻲ، ﻭاﺑﻦ ﺳﺮﻳﺞ ﺧﺎﺻﺎ، ﻫﻞ ﻛﺎﻧﻮا ﻣﻦ اﻟﻤﺠﺘﻬﺪﻳﻦ اﻟﻤﺴﺘﻘﻠﻴﻦ، ﺃﻭ ﻣﻦ اﻟﻤﺠﺘﻬﺪﻳﻦ ﻓﻲ اﻟﻤﺬاﻫﺐ؟ ﻭﻻ ﻧﺴﺘﻨﻜﺮ ﺩﻋﻮﻯ ﺫﻟﻚ ﻓﻴﻬﻢ ﻓﻲ ﻓﻦ ﻣﻦ اﻟﻔﻘﻪ، ﺩﻭﻥ ﻓﻦ ﺑﻨﺎء ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻗﺪﻣﻨﺎﻩ ﻣﻦ ﺟﻮاﺯ ﺗﺠﺰﻱء ﻣﻨﺼﺐ اﻟﻤﺠﺘﻬﺪ اﻟﻤﺴﺘﻘﻞ، ﻭﻳﺒﻌﺪ ﺟﺮﻳﺎﻥ ﺫﻟﻚ اﻟﺨﻼﻑ ﻓﻲ ﺣﻖ ﻫﺆﻻء اﻟﻤﺘﺒﺤﺮﻳﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﻋﻢ ﻧﻈﺮﻫﻢ اﻷﺑﻮاﺏ ﻛﻠﻬﺎ، ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﻳﺨﻔﻰ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺪﻫﻢ ﺇﺫا ﻛﻤﻞ ﻓﻲ ﺑﺎﺏ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﻣﻨﻪ ﺑﻐﻴﺮﻩ ﻣﻦ اﻷﺑﻮاﺏ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﻜﻤﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻌﻤﻮﻡ ﻧﻈﺮﻩ ﻭﺟﻮﻻﻧﻪ ﻓﻲ اﻷﺑﻮاﺏ ﻛﻠﻬﺎ.
ﺇﺫا ﻋﺮﻓﺖ ﻫﺬا ﻓﻔﺘﻮﻯ اﻟﻤﻨﺘﺴﺒﻴﻦ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ اﻟﺤﺎﻟﺔ، ﻓﻲ ﺣﻜﻢ ﻓﺘﻮﻯ اﻟﻤﺠﺘﻬﺪ اﻟﻤﺴﺘﻘﻞ اﻟﻤﻄﻠﻖ، ﻳﻌﻤﻞ ﺑﻬﺎ ﻭﻳﻌﺘﺪ ﺑﻬﺎ ﻓﻲ اﻹﺟﻤﺎﻉ ﻭاﻟﺨﻼﻑ، ﻭاﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻢ.
Komentar
Posting Komentar